بقلم: فادي العلي
هو رجل اجتاح الشيب شعره, و بدأت ملامح النضال الطويل تغزو وجهه, رجل من طرازٍ رفيع.. كثيرون هم من يعرفونه, تجدهم راقدين في مقابر الشهداء.. على أرضي لبنان و جرش وتونس ومخيمات دمشق.. وقرى كثيرة ومتباعدة على امتداد مضارب العرب..
في عينيه تكمن حكاية.. حلم بها مع غسان كنفاني, وساهم في خلقها مع قائده وديع حداد, لتصبح روايةً طويلة بدأت مع غضبهم.. ولن تنتهي برحيلهم.
كان غضبه جميلاً, يشبه شموخ البندقية التي لازمت كتفه, فالمياه الجارية في نهر الأردن مازالت مشتاقة له ولرجاله العابرين إلى الحياة في الضفة الأخرى..
كان حالماً, فقتله الواقع من شدة الحلم, كيف لا؟ وهو من وصفه احدهم, بأنه الرجل الذي لم يدرب نفسه على التعايش مع وجود الاحتلال ومستوطناته, أما عدوه.. فقد كان على دراية بهذا, وكان متيقناً بأن ظهور الشيب والتجاعيد على وجه هذا المقاتل ومعهما متاعب المرض, وغيرها من العوامل والإشارات, لن تشكل عائقاً في وجهه.. ولن تُسقط حلمه.
كان محارباً وقيادياً في آنٍ واحد, لم تُتعبه البندقية, كما أنها لم تنتهك عقله,و لم تسرقه النظرية بل تمسك بها..
لم يكن نبياً, ولا ملائكياً, لكنه استحق إنسانيته, تجسد ذلك في قدرته على دفن الأنا الغريزية, واعتناقه لمذهب الوطن..
تعرفه أزقة المخيمات, فخفقان قلبه لم يغب عن أهلها يوماً, وحركته اليومية كانت في شوارعها, ومكتبه القديم مازال رازحاً فيها, كما لم تخذله ذاكرة من ارتادوا أسواق الخضار المكتظة بالفقراء.. فهو كان منهم.
هو من كرهته دوائر النظام الرسمي العربي حتى النخاع, ولا يبدو هذا مستغرباً, فهذا النظام لم يرغب يوما بالاحتكاك بهكذا نوع من القيادات الفلسطينية, بل على العكس من ذلك, لطالما كان هذا النظام مهووساً في استقطاب قادة تستوطنهم نشوة السلطة والمال.. ونضال الفنادق, ومقاعد الدرجة الأولى.
هو من استقبلته مدن الضفة الغربية ومحافظات غزة , وهي ذاتها تلك المدن والقرى من قامت بمراسم الوداع لرجل كان على ثقة بأن لحظاته الأخيرة صارت قريبة, وعلى يقين.. بأن اسمه استقر على السطر الأول من قائمة الموت لدى أعداؤه.. وحتماً أن هذا التهديد كان كافياً لكي يثير لديه خوفاً طبيعياً تجاه الانتقال إلى عالم المجهول, وكان كافياً لهذا التهديد بأن يثير في باطنه شوقاً مؤلماً تجاه عائلته المبعثرة, كحال شعب بأكمله, وكافياً حينها بأن يتملكه الحنين لأحفاده, ولأنه من جنس البشر.. قد تكون انتابته وقتها رغبة جامحة لان يتمكن من حضور الزفاف المنتظر لنجله, و ألماً لئيماً أصابه عندما أفاده قلبه, أن فنجان قهوته الصباحية الذي يحتسيه عادة مع زوجته, قد أصبح فنجان الصباح الأخير..
هو من تخطى كل هذه اللحظات الإنسانية الكبيرة, وعند تجاوزه لها, ولحاجز الخوف والرغبة في البقاء.. وإصراره على تحدي الاحتلال,عندها.. نجح من جديد في امتحانه الثوري العريق, واستحق أن يكون رمزاً وطنياً وأممياً..
ولأننا على مسافة ساعات مع ذكرى استشهاده السابعة, سوف تجد الورود نفسها على موعدٍ حتمي يحملها إلى ضريح هذا الرجل, لذا.. عند سؤالنا عن المكان الذي ترقد فيه هذه الهامة الكبيرة, قيل لنا أنه في رحلة طويلة مع الشهداء, وأننا قد نجده في عمان او بيروت ويقال انه في دمشق او ربما في تونس, ويكاد يجزم البعض انه في بغداد.
ويُحكى في روايةٍ أخرى, أن ضريحاً على مشارف رام الله, يحمل على رخامته واحداً من ألقابه.. أبو علي مصطفى.
فادي العلي
26 / 08 / 2008
قصي المحسيري*****